تراب مندثرأمل دنقل شاعرا عاطفيا
هل بعد ذلك شك في أن أمل دنقل كان شاعرا عاطفيا بنفس الدرجة التي تميز فيها كشاعر سياسي?
ميدل ايست اونلاين
كتب ـ عبدالمنعم عبدالعظيم
منذ رحل هذا الشاعر الجنوبي الأسمر عن عالمنا وآلاف الأضواء تتسلط على ساحة حروفه القوية الرصينة الصادقة المعبرة العميقة، وكأنها تتعرف لأول مرة على الثراء الفني الذي رحل صاحبه بعد رحلة حياتية قصيرة أنهكه فيها المرض اللعين والحروف التي لم تعرف الانحناء، عاش فيها مطاردا من الجلاد والمحقن يصارع السوط ومشرط الطبيب وآلام المرض الخبيث حتى ودع دنيانا.
هذا الشاعر الذي قالوا في مقدمة ديوانه الذي جمع أعماله الكاملة بعد وفاته وأصدرته دار روزاليوسف القاهرية "ليس أمل شاعرا يتغنى بالقصائد، إنه يمسك السكين ويكتب به الكلمات، هذا الشاعر الذي اتسم بالصلابة والذى كان يقول: لقد قتلت عبر سنوات العذاب كل أمل ينمو بداخلي قتلت حتى الرغبات الصغيرة والضحك الطيب."
وعندما نعاه الكاتب كمال الملاخ بالشاعر العاطفي الرقيق ثارت ثائرة النقاد وقال أحدهم إنه لم يقرأ شعر أمل دنقل ولم يعرفه لأن أمل لا يكتب بالقلم ولكن يكتب بالسكين0
وقال الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازي "إن أمل في حديثة صريح قاطع عنيف لا يعبأ باللياقة ولا يلقى بالا للاستدراك إنما يواجه هدفه بغير تحوط أو مداراة."
وكان أمل يقول "أريد أن يكون عقلي هو السيد الوحيد لا الحب ولا الجنس ولا الأماني الصغيرة. إنني لا أقبل كلمة رقيقة من امرأة لأن هذا سيضطرني إلى الترفق معها، وهذا يعني التودد إليها وهذا يمثل الضعف الذي لا يغتفر."
كان أمل يخجل من مجرد وصفه بالشاعر لأن وصف الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والمشاعر الفياضة والنعومة.
وهو القائل:
آه لو أملك سيفا للصراع
آه لو أملك خمسين ذراع
لتسلمت بإيماني الهرقلي
مفاتيح المدينة
كان يبدو مزهوا بالقوة والعنفوان والقلب الذي لا يعرف العواطف
ويخاطب الناس:
أيها الناس كونوا أناسا ..
هي النار وهي اللسان الذي يتكلم بالحق ..
لا تدخلوا معمدانية النار ..
كونوا لها الحطب المشتهى ..
والقلوب الحجارة ..
وقد كان يعزى هذا إلى نشأته الصلبة الخشنة الجافة وتزمت والده الأزهري وطبيعتة الصعيدية.
يقول في قصيدته "الكعكة الحجرية":
أيها الواقفون على حافة المذبحة ..
أشهروا الأسلحة ..
سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة ..
والدم انساب فوق الوشاح ..
المنازل أضرحة .. والمدى أضرحة .. والزنازن أضرحة ..
فأشهروا الأسلحة ..
رايتي عظمتان وجمجمة ..
وشعاري الصياح ..
ثم يقول في "دفتر الاستقبال":
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي أبدا ..
إنى لأفتح عيني حين أفتحها ..
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا ..
ويقول في "فقرات من كتاب الموت":
كل صباح .. أفتح الصنبور في إرهاق ..
مغتسلا فى مائه الرقراق ..
فيسقط الماء على يدى دما ..
وعندما أجلس للطعام مرغما ..
أبصر في دوائر الأطباق ..
جماجما .. جماجما ..
مفغورة الأفواه والأحداق ..
هكذا يبدو أمل دنقل شاعرا متحجر المشاعر صخري المزاج لا يعرف العاطفة حتى أن الكاتبة عبله الرويني (أرملة الشاعر) قالت عنه في كتابها الجنوبي إنه كان شديد الصلابة كالجرانيت الصخري فهو قادر دائما على كتمان انفعالاته، بل وأحيانا على إظهار عكسها.
ولعلني أرى أن أمل دنقل استطاع أن يخدع الجميع، فوضع على وجهه قناعا زائفا أخفى به وجهه الحقيقي الذي يتدفق عاطفة ويتفجر حبا، وهو الذي يملك وجدانا جياشا بالمشاعر الرقيقة مهما حاول أن يوهم الناس أن العاطفة لديه لحظة ضعف حاول أن يطردها من حياته.
هل افتقد العاطفة هذا الشاعر الذي قال:
ووقفنا في العيون الخرس ..
قول لا يذاع .. يخنق اللحن ..
فتدميه أعاصير المستباح بين إطراق ..
وحزن القلب .. أضناه الوداع ..
وهل صخرى ذلك الذي قال:
ونظرت في عينيك من عبر الدموع ..
عينان خضروان كالخلد الرطيب ..
فرأيت أحزانا توسوس في الربيع ..
وحنان وجد صادق لم تبصريه ..
إن أمل قلب يبشر بالحب يقول في قصيدته "الملحد":
لكم جئت للحب أزجى القرابين .. والحب عبد له سؤدد
أتيتك يوما صغيرا غريرا .. يجاذبني نورك الموقد
وحفت إليك بحار الدموع .. يلوح خلفها المعبد
وهو القائل أيضا:
وأنا المسيء إليك يا حبى المنتظر ..
فأنا تراب مندثر .. ولأنت طاهرة كحبات المطر ..
وهل بعد ذلك شك في أن أمل دنقل كان شاعرا عاطفيا بنفس الدرجة التي تميز فيها كشاعر سياسي؟ ولعله كان صادقا عندما قال الشاعر بلا حب كالشعر بلا معنى.
يقول في قصيدة من ديوانه "مقتل القمر":
أحدق في خطوط الصيف في شفتيك ..
يعوي داخلي الحرمان ..
لهيب أدمى الشوق .. مصباحان يرتعشان
وأهرب نحو عينيك ..
يطالعني الهوى والله والغفران
أو قصيدته التي يقول فيها:
شاء الهوى أن نلتقي سهوا ..
كم كنت افتقدك .. يا وجهها الحلوى ..
والعجيب أن أمل كان حريصا على عدم نشر قصائده العاطفية، مثل قصائده: (حب / راحلة / اذكريني / الملحد / نانا / الوداع / ستأتين لي / الموزة السمراء) رغم ما تحمله من عاطفة متدفقة وصفاء كنور الفجر.
ربما أراد ألا يراه أحد في لحظة ضعف، ولعل رفيقة رحلته عبلة الرويني، كانت صادقة عندما قالت "كتب أمل عن صديق له هذه الكلمات فخلته يكتب عن نفسه:
"كنت دائم الخوف من أن يكتشف الناس كم أنت رقيق فيدهسوك بسنابكهم."
عبدالمنعم عبدالعظيم
Monemazim2007@yahoo.com
منذ رحل هذا الشاعر الجنوبي الأسمر عن عالمنا وآلاف الأضواء تتسلط على ساحة حروفه القوية الرصينة الصادقة المعبرة العميقة، وكأنها تتعرف لأول مرة على الثراء الفني الذي رحل صاحبه بعد رحلة حياتية قصيرة أنهكه فيها المرض اللعين والحروف التي لم تعرف الانحناء، عاش فيها مطاردا من الجلاد والمحقن يصارع السوط ومشرط الطبيب وآلام المرض الخبيث حتى ودع دنيانا.
هذا الشاعر الذي قالوا في مقدمة ديوانه الذي جمع أعماله الكاملة بعد وفاته وأصدرته دار روزاليوسف القاهرية "ليس أمل شاعرا يتغنى بالقصائد، إنه يمسك السكين ويكتب به الكلمات، هذا الشاعر الذي اتسم بالصلابة والذى كان يقول: لقد قتلت عبر سنوات العذاب كل أمل ينمو بداخلي قتلت حتى الرغبات الصغيرة والضحك الطيب."
وعندما نعاه الكاتب كمال الملاخ بالشاعر العاطفي الرقيق ثارت ثائرة النقاد وقال أحدهم إنه لم يقرأ شعر أمل دنقل ولم يعرفه لأن أمل لا يكتب بالقلم ولكن يكتب بالسكين0
وقال الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازي "إن أمل في حديثة صريح قاطع عنيف لا يعبأ باللياقة ولا يلقى بالا للاستدراك إنما يواجه هدفه بغير تحوط أو مداراة."
وكان أمل يقول "أريد أن يكون عقلي هو السيد الوحيد لا الحب ولا الجنس ولا الأماني الصغيرة. إنني لا أقبل كلمة رقيقة من امرأة لأن هذا سيضطرني إلى الترفق معها، وهذا يعني التودد إليها وهذا يمثل الضعف الذي لا يغتفر."
كان أمل يخجل من مجرد وصفه بالشاعر لأن وصف الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والمشاعر الفياضة والنعومة.
وهو القائل:
آه لو أملك سيفا للصراع
آه لو أملك خمسين ذراع
لتسلمت بإيماني الهرقلي
مفاتيح المدينة
كان يبدو مزهوا بالقوة والعنفوان والقلب الذي لا يعرف العواطف
ويخاطب الناس:
أيها الناس كونوا أناسا ..
هي النار وهي اللسان الذي يتكلم بالحق ..
لا تدخلوا معمدانية النار ..
كونوا لها الحطب المشتهى ..
والقلوب الحجارة ..
وقد كان يعزى هذا إلى نشأته الصلبة الخشنة الجافة وتزمت والده الأزهري وطبيعتة الصعيدية.
يقول في قصيدته "الكعكة الحجرية":
أيها الواقفون على حافة المذبحة ..
أشهروا الأسلحة ..
سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة ..
والدم انساب فوق الوشاح ..
المنازل أضرحة .. والمدى أضرحة .. والزنازن أضرحة ..
فأشهروا الأسلحة ..
رايتي عظمتان وجمجمة ..
وشعاري الصياح ..
ثم يقول في "دفتر الاستقبال":
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي أبدا ..
إنى لأفتح عيني حين أفتحها ..
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا ..
ويقول في "فقرات من كتاب الموت":
كل صباح .. أفتح الصنبور في إرهاق ..
مغتسلا فى مائه الرقراق ..
فيسقط الماء على يدى دما ..
وعندما أجلس للطعام مرغما ..
أبصر في دوائر الأطباق ..
جماجما .. جماجما ..
مفغورة الأفواه والأحداق ..
هكذا يبدو أمل دنقل شاعرا متحجر المشاعر صخري المزاج لا يعرف العاطفة حتى أن الكاتبة عبله الرويني (أرملة الشاعر) قالت عنه في كتابها الجنوبي إنه كان شديد الصلابة كالجرانيت الصخري فهو قادر دائما على كتمان انفعالاته، بل وأحيانا على إظهار عكسها.
ولعلني أرى أن أمل دنقل استطاع أن يخدع الجميع، فوضع على وجهه قناعا زائفا أخفى به وجهه الحقيقي الذي يتدفق عاطفة ويتفجر حبا، وهو الذي يملك وجدانا جياشا بالمشاعر الرقيقة مهما حاول أن يوهم الناس أن العاطفة لديه لحظة ضعف حاول أن يطردها من حياته.
هل افتقد العاطفة هذا الشاعر الذي قال:
ووقفنا في العيون الخرس ..
قول لا يذاع .. يخنق اللحن ..
فتدميه أعاصير المستباح بين إطراق ..
وحزن القلب .. أضناه الوداع ..
وهل صخرى ذلك الذي قال:
ونظرت في عينيك من عبر الدموع ..
عينان خضروان كالخلد الرطيب ..
فرأيت أحزانا توسوس في الربيع ..
وحنان وجد صادق لم تبصريه ..
إن أمل قلب يبشر بالحب يقول في قصيدته "الملحد":
لكم جئت للحب أزجى القرابين .. والحب عبد له سؤدد
أتيتك يوما صغيرا غريرا .. يجاذبني نورك الموقد
وحفت إليك بحار الدموع .. يلوح خلفها المعبد
وهو القائل أيضا:
وأنا المسيء إليك يا حبى المنتظر ..
فأنا تراب مندثر .. ولأنت طاهرة كحبات المطر ..
وهل بعد ذلك شك في أن أمل دنقل كان شاعرا عاطفيا بنفس الدرجة التي تميز فيها كشاعر سياسي؟ ولعله كان صادقا عندما قال الشاعر بلا حب كالشعر بلا معنى.
يقول في قصيدة من ديوانه "مقتل القمر":
أحدق في خطوط الصيف في شفتيك ..
يعوي داخلي الحرمان ..
لهيب أدمى الشوق .. مصباحان يرتعشان
وأهرب نحو عينيك ..
يطالعني الهوى والله والغفران
أو قصيدته التي يقول فيها:
شاء الهوى أن نلتقي سهوا ..
كم كنت افتقدك .. يا وجهها الحلوى ..
والعجيب أن أمل كان حريصا على عدم نشر قصائده العاطفية، مثل قصائده: (حب / راحلة / اذكريني / الملحد / نانا / الوداع / ستأتين لي / الموزة السمراء) رغم ما تحمله من عاطفة متدفقة وصفاء كنور الفجر.
ربما أراد ألا يراه أحد في لحظة ضعف، ولعل رفيقة رحلته عبلة الرويني، كانت صادقة عندما قالت "كتب أمل عن صديق له هذه الكلمات فخلته يكتب عن نفسه:
"كنت دائم الخوف من أن يكتشف الناس كم أنت رقيق فيدهسوك بسنابكهم."
عبدالمنعم عبدالعظيم
Monemazim2007@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق