الصعيدى العنيد عبداللطيف ابورجيلة
فارس من فرسان الاقتصاد المصرى
كتب عبدالمنعم عبدالعظيم
وأنا فايت على كوبرى إسنا لفحنا الهوا ونعسنا واللى شبكنا يخلصنا حبيبى هى اللحن الفلكلورى الذي كان يتغنى به ابورجيله احد أبناء إسنا احد مراكز محافظة الأقصر ذات الطابع الاثرى و التاريخى وهى مدينة مصرية قديمة فى جنوب مصر كانت محط القوافل السودانية وترتبط بالسودان عن طريق درب الأربعين الشهير كما تتصل بالواحات الخارجة وبالصحراء الشرقية حتى القصير اسمها الفرعونى هان خونومو اى قصر الإله خنوم واسمها الاغريقى لاتوبوليس اى مدينة السمك البلطى ولفظ إسنا تحريف للاسم الفرعونى ( س نوت ) معبد الآلهة نوت رمز السماء فى اللاهوت المصرى القديم .
كانت إسنا فى العصر الفاطمى قاعدة كوره وفى العصر المملوكى كانت تابعة لولاية قوص ولجرجا و فى العصر العثمانى فى1833 كانت مديرية قائمة بذاتها تشمل إسنا والكنوز وحلفا وفى 1888 أضيفت لقنا ثم الى محافظة الأقصر الآن و بها معبد بطلمى أقيم على أنقاض معبد فرعونى قديم .
ولأرض إسنا قداسة خاصة عند أقباط مصر فكل سنتيمتر منها روى بدم شهيد ومن أبنائها مهندس الأهرامات اموحتوب أول من بنى بناء بالحجر وأبدع هرم الملك زوسر المدرج ورفعه المصرين القدماء لرتبة الآلهة
عبداللطيف ابورجيلة من أشهر رجال الاقتصاد فى مصر
ولد فى مدينة إسنا ونشا فى السودان وتعلم فى القاهرة واكتسب خبراته العملية فى لندن وروما وهو ابن لأسرة من ثلاث اسر تمثل مركز الثقل العائلى فى هذه المدينة أسرة حزين وأسرة ابو العلا وأسرة ابورجيلة وكان والده يعمل بالزراعة وبعد ان تلقى تعليمه الأولى بالسودان عند جده لامه حسن عبدالمنعم ممثل الحكومة المصرية فى السودان التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة وكان حارس مرمى فريق كرة القدم بالمدرسة ومن أبطال رياضة التنس ثم التحق بمدرسة التجارة العليا فى الثلاثينيات وأثناء دراسته مارس بعض الأعمال التجارية مع أقاربه فقد كان طوال دراسته الجامعية يعول نفسه
وبعد تخرجه التحق بالعمل فى بنك مصر قلعة الاقتصاد المصرى واستفاد من تجربة الاقتصادي الكبير طلعت حرب الذى وجد فيه مثله الأعلى
وأوفده طلعت حرب للتدريب على الأعمال المصرفية بلندن وروما
وفى أثناء بعثته بروما زار العديد من الشركات والوكالات التجارية واستطاع أن يعقد صفقة لتوريد المحاصيل الزراعية من مصر الى ايطاليا وانتقل من عالم الوظيفة الى دنيا رجال الأعمال
بدأ حياته العملية برأسمال قدره أربعة وثلاثون جنيها ولما عاد من ايطاليا استقال من وظيفته وكانت هذه الاستقالة هى النقلة التى أذنت بميلاد الاقتصادي الكبير عبداللطيف ابو رجيلة
عمل فى البداية فى توريد الحاصلات الزراعية وساهم فى توريد الأسلحة للجيش المصرى من عام1948 حتى عام 1952 وتعرض خلال هذه الفترة لمؤامرات الصهيونية العالمية والاعتداء عليه فى ايطاليا
وشارك فى تأسيس شركة الخزف والصينى مع البنك الصناعى المصرى وتعاون مع وزارة الصناعة فى إنشاء مصنعين احدهما للفرامل والأخر لليايات ثم أسس شركة القاهرة للتامين وشركة اخرى للصناعات الإسمنتية وهى الشركة التى قامت بدور رائد فى إعادة اعمار مدينة بورسعيد بعد العدوان الثلاثى الغاشم على مصر
وبحكم انتمائه الريفى وتربيته فى مدينة تشكل الزراعه حياة مجتمعها عشق العمل فى الزراعة واستصلاح الاراضى وكان يملك مزرعة نموذجية أعطاها كل خبرة الفلاح الصعيدى أقدم فلاح فى التاريخ ونجح فى تصدير المانجو والموالح الى دول أوربا خاصة السويد
وعمل فى مجال الفندقة وتملك فندق سميراميس بمدينة كابرى الايطالية
كان يفتخر بأنه يستثمر جميع أمواله فى مجالات متعددة بدلا من كنزها وركودها ويفخر انه حقق العيش الكريم لآلاف الأسر
كان إيمانه ان الثروة لابد ان تلعب دورا اجتماعيا يتجاوز المصالح الشخصية وهى نفس الدروس التى تعلمها فى مدرسة أستاذه طلعت حرب
كان يستهدف النجاح فى اى عمل يقوم به ولم يكن يستهدف جمع المال كان يعطى عمله كل وقته وساعات نومه لا تزيد عن خمس ساعات فى اليوم لم يكن طريقه سهلا او معبدا ولم يكن مفروشا بالورود فهو لم يلد وفى فمه معلقة من ذهب إنما كون ثروته بكفاحه وبنى ثروته بعملة
فى أثناء الحرب العالمية الثانية خسر عبداللطيف ابورجيلة كل رأسماله فى ايطاليا لكنه لم يياس وبدء من جديد
تزوج لندا من جنوب ايطاليا صعيدية مثله من مدينة كالاباريا حيث التقاليد تشبه تقاليد صعيد مصر عاش فى ايطاليا تسعة عشر عاما وعاد الى مصر عام 1949 ومن مدخراته اشترى قطعة ارض مساحتها 6000متر بموقع متميز تطل على شارع سليمان ومعروف وشامبليون وعبدالحميد سعيد واشترى مزرعة مساحتها 400 فدان حدائق بعين شمس وعاد لايطاليا عام 1952واستدعته حكومة الثورة فعاد عام
1954
اتسم عبداللطيف ابورجيلة بالبساطة والمرح والصراحة كان ابن بلد بكل ما تعنيه الكلمة من شهامة وسمو كان يقدم سجل انشطته وماليته للجهات الرسمية حتى أمواله بالخارج بكل شفافية مطمئن الى ضميره
لم يكن من عشاق الحياة الاجتماعية يعمل بلا كلل لساعات طويلة يستيقظ مبكرا ولا يعرف الأجازات ويعتز بقيم وتقاليد الصعيد ومبادئه ومظاهره الشكلية
كان يجد متعته فى كرة القدم ولعب الدومينو لم يذهب الى طبيب وعلاجه الشاى بالليمون لنزلات البرد وصيدليته تحوى الأعشاب الطبية مثل الحرجل والنعناع وحلف البر والعرديب والشيح
كان خفيف الظل يمرح فى تلقائية ويفضل ركوب السيارات البسيطة مثل الاوبل يعيش حياة التقشف ويرتاح فى لبس الجلباب الأبيض والعباية بسيط فى ملبسه ومأكله ومسكنه يخشى الحياة المترفة حتى لا يعتادها
اقتصرت متعته على العمل وتحقيق النجاح
وكان يركب الأتوبيس فى انتقالاته هو وزوجته لم يعرف الإسراف فهو لا يشرب ولا يقامر ويؤمن بمصريته ويفخر بانتمائه الوطنى يعمل للصالح العام بلا ضجيج
يعد النقل من أهم معايير تقدم الأمم وكانت مرافق النقل تخضع لسيطرة الأجانب مما حدا بمجلس النواب التأكيد على ان تتولى الحكومة حق استغلال مرافق النقل من أتوبيسات وسكك حديديه وتلغراف وتليفونات عام 1938 لكسر احتكار الأجانب وأسس ابوالوفا دنقل شركة أتوبيس الصعيد وهو ضابط سابق من أبناء قرية القلعة بقفط وأسس احمد عبود شركة أتوبيس الشرقية والدقهلية
وبعد ثورة 3 يوليو فى عام 1954 بعد تدهور مرفق النقل العام بالعاصمة اتصل عبداللطيف البغدادى عضو مجلس قيادة الثورة بعبد اللطيف ابو رجيلة الذى كان مقيما أيامها بايطاليا وكلفه بتحمل مسئوليات مرفق النقل العام بالقاهرة ولم يقدم ابورجيله شروطا ولم يطلب قروضا او ضمانات فبدأ بدفع مرتبات العمال المتأخرة ثم قام باستيراد أتوبيسات من اكبر الشركات العالمية وفى خلال سنة كانت 400 سيارة فاخرة تقدم خدمات راقية بمواعيد منتظمة ومنضبطة واستطاع ان يرفع كفاءة العمال بالتدريب المستمر والرقابة الحازمة كما قام ببناء جراجات حديثة لإيواء السيارات الحق بها ورش ميكانيكية للصيانة وإصلاح الإطارات ومحطات للتشحيم والتموين وعيادات طبية ومكاتب للموظفين استطاع ان يقدم خدمة جيدة وفق منهج علمى وقام بإنشاء مصنع لليايات وأخر لصناعة تيل الفرامل
وقام باستيراد معدات حديثة لتمهيد الطرق قامت بتمهيد طريق مصر إسكندرية الزراعى وطريق شربين كفر الشيخ كما قدمت خدماتها للقوات المسلحة استطاع مرفق النقل أن يقدم خدماته ل13 مليون مواطن وكان الزمن بين الأتوبيس والتالى ثلاثة دقائق وارتفع عدد العاملين الى 4000 عامل وهو الذى ادخل خدمة الراديو فى الأتوبيسات وأصبح مرفق النقل فى عهده بيت خبرة وطنى
وكان يركب الأتوبيس كمواطن عادى لمعرفة كفاءة العاملين ونبض الناس كما تحمل واجب رعاية أبناء العاملين تعليميا وصحيا من جيبه الخاص وكان يؤمن بان العامل المصرى امهر عامل فى العالم إذا تعلم وفهم
خضع ابورجيلة وشركاته للتاميم1960مثل غيره من كبار الراسماليين فغادر مرة اخرى الى ايطاليا واستعانت به حكومة السودان لحل مشاكل النقل بها فاستعان ببيت خبرة بلجيكى وحققت أعماله فى الخارج بعد التأميم أرباحا طائلة
ولعبد اللطيف ابورجيلة مسيرة اخرى مع الرياضة أثناء رئاسته لنادى الزمالك لقد تأسس نادى الزمالك عام 1911 باسم نادى قصر النيل ثم تغير اسمه فى السنة التالية وسمى نادى المختلط فى عام 1941 سمى باسم نادى فاروق وبعد ثورة 23 يوليو سمى باسمه الحالى نادى الزمالك وقد استطاع المصريين الإطاحة بإدارته الأجنبية والإطاحة برئيسه البلجيكى مرزباح بيانكى وانتخاب محمد بدر باشا رئيسا للنادى وبعد الثورة كان يراس النادى محمد حيدر باشا لكنه كان محسوبا على النطام الملكى واحد ابرز رموزه ورغم انه استمر رئيسا للنادى 30 عام الا انهم اختاروا محمود شوقى رئيسا ولكنه لم يتمكن من منافسة النادى الاهلى الذى كان يرأسه احمد عبود باشا صاحب الثروة الطائلة والنفوذ القوى فاختير الشواربى الذى لم يستمر سوى شهور قليلة وكان عبداللطيف ابورجيلة هو الوحيد القادر على منافسة احمد عبود فاختير رئيسا للنادى
وفى ظل رئاسته فاز الزمالك ببطولة الدورى العام لكرة القدم للمرة الأولى فى تاريخه وأصبح المنافس القوى والعنيد للنادى الاهلى العريق
تجربة احمد عبود فى إدارة النادى الاهلى فى النصف الثانى من الأربعينيات وطوال الخمسينيات أثبتت قدرة رجال الاقتصاد فى دفع مستوى الرياضة ودعمها وتجربة عبداللطيف ابورجيلة مع الزمالك لا تقل أهمية عن تجربة عبود وتزيد فى كون أن احمد عبود لم يكن رياضيا إنما عبداللطيف ابورجيلة كان من لاعبى كرة القدم والتنس ولعب الجولف إثناء إقامته فى ايطاليا وشارك فى سباقات السيارات واليخوت التى فاز ببطولتها عام 54\55 وفاز بعلم البحر المتوسط فى صيد السمك متفوقا على أبطال 8 دول فى كورسيكا عام 1954وراس الاتحاد المصرى لكرة السلة 54 واستمر رئيسا لنادى الزمالك من 1959\1961 واستطاع ان يدبر الميزانيات لبناء مدرجات النادى من شركات البترول التى كان يتعامل معها لتموين مرفق النقل العام وجدد منشات النادى ومرافقه حتى اصبح ملتقى الارستقراطية والصفوة فى المجتمع المصرى واهتم باللاعبين وأقام لهم معسكرات التدريب كانت كرة القدم أهم شيء فى حياته وأخر ما تبقى له من متع الحياة عاد إلى مصر في منتصف السبعينيات، وعاش بقية عمره حزيناً على إهدار تجربته، كفرد، وإهدار تجربة بلد بكامله، وهي تجربة كانت في مطلع الخمسينيات لا تزال تتلمس الطريق، وقد كانت هناك بدايات قطاع خاص ينمو، وبدايات أحزاب تتحرك،!
كانت وصية عبد اللطيف أبو رجيلة أنه لا نجاح لهيئة النقل بمعزلٍ عن محاربة الرشوة والسرقة والإهمال والتسيب. وظل يردد بثقةٍ أن أزمة المواصلات في القاهرة يمكن أن تُحل قبل أن ينتهي من قهوته
هذا هو عبداللطيف ابورجيلة الصعيدى الصلب والعنيد الذى يتلقى الضربات بصمود ويحولها الى نجاحات
ولم يبخل على بلده اسنا فتبرع بوحدة للفشل الكلوى ومعهدا دينيا
أتخيله يسير على كوبرى إسنا بجلبابه الأبيض وهو يترنم ونا فايت على كوبرى إسنا لفحنا الهوى ونعسنا ثم نعس نعسته الأخيرة بعد حياة حافلة بالعطاء