بمناسبة عيد محافظة قنا القومى
3 مارس الطريق إلى نجع البارود
أوراق قديمة من ملف النضال الشعبي
كتب/عبدالمنعم عبدالعظيم
1
في تاريخ الأمم والشعوب أيام خالدة لا تمحوها الأيام، وتظل الأدوار الكبيرة على مسرح التاريخ شاهدةً على خلود البطل وعظمة البطولة. تعالوا معي نقلب هذا السجل العظيم، نغوص في أعماق هذا السفر الخالد للإنسان في بلدي نعود مئتان ونيف عاماً إلى الوراء لنشهد ملحمة النضال الخالدة التي سجلها أبناء محافظة قنا في نجع البارود.
2
أبحث عن مدخل يقودني إلى نجع البارود استلهم روح البطولة في المكان يشدني الزمان عبر رحلة طويلة من خلال شواهد الأجداد، من هنا كانت البداية ما زال الحجر يحكي في نقوشه الخالدة للدنيا هذه الإرهاصات على جدران المعابد التليدة والمسلات السامقة، إن البطولة في بلدي عميقة الجذور ممتدة إلى آلاف السنين.
3
نقفز قفزاً عبر حدود الزمان إلى المكان فهذه البقعة من أرض مصر المحروسة لم تنكس رايات البطولة والعطاء عبر تاريخها الطويل والممتد ولم تستكن لغاصب.
4
كان الطريق إلى نجع البارود حلم القائد الفرنسي ديزيه وحملة نابليون بونابرت للقضاء على آخر فلول مقاومة المماليك للحملة. كانت خطته أن يقضي على مراد بك ومماليكه الذين فروا إلى الصعيد لتتفرغ الحملة بعدها لتحقيق حلم فرنسا ونابليون في السيطرة على طريق الهند ورفع رايات الإمبراطورية الفرنسية في مواجهة عدوها التقليدي بريطانيا العظمى. كانت تقديراته أنه لن يلفي مقاومة من المصريين لميلهم إلى الهدوء وكراهيتهم للمماليك. كان يتصور أن حملته على الصعيد نزهة على ضفاف النيل فلم تبق هزيمة المماليك في معركة الأهرام لهم قوة تذكر. وعلى الدرب الصاعد في الطريق إلى الصعيد كانت المفاجاة التي أذهلت ديزيه وقواته فقد كانت رحلتهم إلى الصعيد رحلة إلى الجحيم. 5
نقلب في مذكرات أحد ضباط الحملة الفرنسية يقول: "إن المقاومة التي لقيها الجنود الفرنسيين في الوجه البحري في الغالب ذات صبغة محلية لكن فرقة ديزيه هي التي اضطرت أن تواجه حركات حربية حقيقية". ويقول ضابط آخر: "كنا هدفاً لأخطار كثيرة كلما أوغلنا في بلاد الصعيد التي حمل أهلها جميعاً السلاح في وجهنا". نتابع يوميات الحملة في مذكرات القادة الفرنسيين في تاريخ الجبرتي في كتب الرافعي أتلمس نضال أبناء بلدي في محافظة قنا بدءاً من معركة سمهود "إحدى قرى مركز أبو تشت" في 22 يناير 1799 أقف على نتائج المعركة التي انتصر فيها ديزيه على قوات مراد بك وأنهى فيها آخر دور للمماليك في مقاومة الحملة ليبدأ الدور الحقيقي للمقاومة المصرية الخالصة دون أن تختلط فيها الأدوار. لم يكن من الصعوبة على الجنرال ديزيه بعد انتصاره في سمهود أن يضع لمسات النهاية لعصر المماليك فها هو يتعقب فلول قواتهم في فرشوط ثم هو ثم الوقف في دندرة فدنفيق فطيبة فأرمنت فإسنا التي ترك فيها ديزيه كتيبة من جنوده وواصل سيرة إلى إدفو فأسوان حيث لم يلق من المماليك مقاومة تذكر واكتفوا بالمناوشات الخاطفة على مؤخرة الجيش والفرار في المواقع التي انتهت بغلبة القوات الفرنسية، هنا تنفس ديزيه الصعداء وظن أنه اقترب من تحقيق حلم الإمبراطورية لنابليون، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن كما يقولون.
6
لقد خلا مسرح الأحداث إلا من الأبطال الحقيقيين وذاب الكومبارس من قوات المماليك في أودية النوبة ودروب الصحراء وخلف مقاعد المتفرجين ليشهد التاريخ الأدوار العظيمة والخالدة لأبناء محافظة قنا أحفاد الفراعنة العظماء في معارك الصمود والتحدي. هل كانت قيادة المقاومة تبيت النية على سحق الحملة في طريق العودة بعد أن ينهكها السير أم كانت ترسم على خريطة الأحداث دورها المحدد بعيداً عن مزايدات المماليك حتى لا يكون لغير أبناء مصر فضل في البطولة؟
7
ما أن انتهى دور المماليك حتى شهدت حملة ديزيه على الصعيد ما لم تشهده طوال رحلتها من مقاومة معركة قنا في 12 فبراير 1799 معركة أبو مناع في 17 فبراير معركة إسنا في 25 فبراير. تلك المعارك التي أنهكت قوات الجنرال وأحرجت موقفه وجعلته يستنجد بنابليون طالباً المدد والعون، ولما أصابه اليأس غادر إسنا إلى قوص في طريقه إلى أسيوط حيث قواته طلباً للأمان.
8
ملحمة البارود: سبق الجنرال ديزيه عند سفره إلى قوص أسطوله الذي كان يسير ببطء في النيل ليلحق بالجيش في أسيوط كان الأسطول مكوناً من اثنتى عشرة سفينة تقل ذخائر الجيش ومؤنته تتقدمها السفينة الحربية إيتاليا. وعند قرية صغيرة ككل قرى مصر تتلاصق بيوتها في ذعر لا تشعر عندها إلا بالأمان تكسوها الطبيعة برداء أخضر جميل وتكسبها شمس مصر الساطعة الدفء والحنان رغم رائحة اللهيب في اسمها "البارود" لم يكن فيها سوى الدفء والصمت، وفجأة تتأجج هذه القرية الآمنة وتتفجر في رجالها حمية المقاومة وتشتعل في صدورهم نيران الغضب. رجال ربما لا تحفظ ذاكرة التاريخ اسماً من أسمائهم هاجموا أسطول فرنسا المدجج بالسلاح والعتاد، هاجموه بأسلحتهم التقليدية العتيقة، الشوم والنيابيت ومشاعل النار. وبرغم الهجوم الناري الذي شنته عليهم سفينة القيادة إيتاليا بمدافعها الحديثة والتي حصدت منهم الكثير لم يزدهم الموت والدمار إلا إصراراً على الصمود والثأر الموت أو الكرامة. كانت هذه هي طبائعهم الأصيلة وجزء من تكوينهم الفطري وميولهم الغريزية، لقد نزلوا إلى النيل معبودهم القديم ومصدر حياتهم وسر وجودهم وقد شق عليهم أن تلوث مياهه الطاهرة سفن العدو الغاشمة، سبحوا على صفحته غير مبالين بالهول الأكبر، هاجموا السفن واستولوا عليها وافرغوا شحنتها من الذخائر على شاطئ النهر الخالد، ثم امتطوا ظهور السفن وقصدوا سفينة القيادة إيتاليا للاستيلاء عليها، وكان يقودها القومندان موراندي الذي ضاعف إطلاق النار على الثوار، ولكن عزمهم كان أقوى وإرادتهم كانت أصلب وأصلد. هنا فكر القائد الفرنسي في الانسحاب لكن الريح عاكسته فجنحت به السفينة ولم يلبث أن هرع إليها الأهالي من كل صوب، وتحقق موراندي الخطر المحيط به فأشعل النار في مستودع البارود فنسف السفينة نسفاً وتناثرت شظاياها واختلطت بدماء غير قليل من الأهالي استشهدوا ولكن من بقي منهم قاتل ببسالة نادرة حتى مات موراندي متأثراً بجراحه، وقتلوا جميع الفرنسيين الذين كانوا على ظهر سفن الأسطول الفرنسي. كانت خسارة الفرنسيين في هذه الموقعة خمسمائة قتيل وهي أكبر خسارة منيت بها الحملة الفرنسية على مصر.
9
معارك قفط وأبنود 8 و 10 مارس: طاش صواب الفرنسيين بعد هزيمتهم الساحقة في نجع البارود فحاولوا الانتقام لرفع الروح المعنوبة لجنودهم التي انطفأت بعد معركة البارود. قصد الجنرال بليار مواقع الأهالي على مقربة من قفط التي دارت فيها معركة رهيبة انسحب بعدها الثوار إلى قرية أبنود التي تحصنوا فيها ونصبوا المدافع التي غنموها في البارود وأخذوا يطلقون النار على حشود الفرنسيين ففتكوا بهم فتكاً شديداً. كانت المرة الأولى التي واجه فيها الفرنسيون أسلحة حديثة من أسلحتهم التي غنمها الفلاح المصري واستوعبها. كانت المعركة تميل لصالح المصريين، وهنا أدرك بليار حرج موقفه فوجه جيشه كله لمهمة واحدة الاستيلاء على هذه المدافع. واستمرت المعركة اثنتي وسبعون ساعة لم يتغلب فيها الفرنسيين على ثوار قنا إلا بعد أن أضرموا النار في مساكن القرية ومسجدها وأحالوها إلى كتلة من الجحيم وأكوام من الرماد. ضربت معركة أبنود مثلاً رائعاً من أمثلة الصمود والتحدي، معركة اختبر فيها الغاصبون معدن الجنوبي الأصيل وعرفوا صلابة الفلاح المصري عندما يملك سلاحاً متكافئاً.
10
كان مماليك عثمان بك حسن يشاهدون المجزرة من بعيد. لم يأتوا شيئاً ولم يصنعوا شيئاً. 11
فبالرغم من انتصار الفرنسيين في موقعة أبنود إلا أن القتال وروح المقاومة التي واجهتهم والخسائر الجسيمة التي حاقت بهم عجلت من انسحابهم من الصعيد كله. قال الجنرال بليار في رسالة له "إننا نعيش هنا معيشة ضنكاً" وكاد ديزيه يلقي حتفه في موقعة بئر عنبر لولا أن افتداه أحد جنوده.
12
كانت هيبة فرنسا قد سقطت في معركة نجع البارود واهتزت كرامتها بعنف في معركة أبنود، بينما كانت المقاومة تكتسب في كل يوم نضجاً وخبرات قتالية وروحاً معنوية عالية وأصراراً على النضال حتى النصر.
13
لقد شهدت محافظة قنا معارك كثيرة حول فيها الرجال الهزيمة بالعزم والإصرار إلى نصر. لم تقهرهم مدافع فرنسا الحديثة، فقد انتصرت الإرادة على الآليات، والنبابيت على المدافع. وبعدها لم يطق الفرنسيين الإقامة في الصعيد، بل وشهدوا قبلتا على بسالة رجال قنا وسجلوا في مذكراتهم بطولتهم وبسالتهم النادرة في المواجهة. كانوا في مذكراتهم صادقين وهم يرسمون صورة المناضل الجنوبي الذي استطاع بجدارة أن يجبرهم على احترامه.
14
ستظل معركة نجع البارود علامة بارزة في تاريخ النضال الوطني وسفر الحرية تشهد بالفخر للإنسان المصري الصلب العزيمة القوي الإرادة. وهناك أمام نجع البارود رسم النيل شاهداً عظيماً حيث تكونت قوق هياكل السفن الفرنسية الغارقة جزيرة بعدما ترسب طمي النيل عليها في فيضه، ما زالت شاهداً حياً للمعركة. وهناك لمسة حضارية، لم يعتدي الثوار على الرسام دينون وأعضاء الفيلق العلمي للحملة، وتركوهم يسجلون آثار الحضارة ولم يتصدوا سوى للمحاربين.
15
كان الطريق إلى نجع البارود يحمل ثراء تراث ممتد لأكثر من سبعة آلاف عام تضيئه مشاعل أعرق حضارة في التاريخ. فهل وعى الذين جاءوا يدعون نقل الحضارة الحديثة إلى بلادنا المتخلفة أننا مهد الحضارة الإنسانية، ومفتاح التقدم ومدرسة التاريخ.
عبد المنعــم عبد العظيــم
الأقصـــر.. مصــــر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق