الجمعة، 24 ديسمبر 2010

انس الوجود

انس الوجود
كتب عبدالمنعم عبدالعظيم
قصة عشق قديمة تربطنى باسوان بوابة مصر الجنوبية فقد عابشت بناء السد العالى فخر امجاد مصر الحديثة عايشت العمال فى اخلد ملاحم البناء وعشت الحلم الذى تحول الى حقيقة وهانحن على مشارف الاحتفال باليوبيل الذهبى للسد العالى
فى اسوان اشعر بكيانى واشعر بمصريتى وأحس بمدى التضحيات التى بذلها عمال مصر بناة السد
أسوان سونو او السوق وفى مقابلها جزيرة الفنتين او الفيل وبالرغم من ان أسوان ليس بها أفيال إنما ترجع التسمية الى ان هذه الجزيرة كانت مركز تجارة العاج وسن الفيل الذى كانت الجزيرة مركزا لتجارته
كانت هذه الجزيرة هى مدينة أسوان القديمة وقلعتها كانت مركز مراقبة بلاد النوبة تخوفا من اى اعتداء من الجنوب
كان القدماء يعتقدون ان النيل ينبع من صخور الشلال الاول وان الاله خنوم الذى كان يمثل براس كبش كان يشرف على فيضان النيل هناك ويتحكم فيه ثم اعتقد القوم فى فترة لاحقة بان النيل ينبع من مكان يدعى اباتون فى جزيرة بيجة القريبة من جزيرة فيله
كانت جزيرة فيلة المستلقية وسط مياه النهر عند الجندل الأول هى النقطة التى كان يعتقد قدماء المصريين ان النيل ينبع منها ومن نقطة البداية هذه انطلقت ايزيس مع زوجها الطيب أوزوريس الذى خرج ينثر الخير والحب بين الناس ويعلمهم كيف يزرعون الأرض ويحترمون قانون السماء
كلمة فيلة جاءت من كلمة فيلاى بمعنى الطرف او البداية باعتبارها بوابة مصر وكتبها الإغريق فيلا بمعنى المحبوب او المكان المرغوب
وكان المصريون القدماء يحجون الى هذا المكان باعتباره منبع الخير وتقديسا للإلهة ايزيس وأوزوريس وابنهما حورس
تحكى الأسطورة المسجلة على جدران معبد ايزيس هذا انه فى قديم الزمان كان يحكم هذه البلاد ملك اسمه جب وكان له ولدان من الذكور واثنتين من الإناث وزوج الملك ابنه أوزوريس من أخته ايزيس كما زوج ابنه ست من أخته نفتيس
ولان اوزريس كان طيب القلب عادلا ملكه أبوه الوديان الخضراء والسهول والأنهار
اما ست الذى كان شريرا حاقدا فقد ملكه أبوه الاراضى الصحراوية القاحلة والرمال القفراء
وكان أوزوريس موسيقيا بارعا أحبه الناس فحقد عليه أخوه ست وتأمر مع آخرين فصنعوا له صندوقا من الذهب الخالص بحجم اوزوريس الذى كان طويل القامة وزعم فى حفل أقامة انه يهديه لمن يتسع له
وعلى ارض جزيرة فيلة كانت الواقعة التى لم يتسع الصندوق فيها لغير اوزوريس وعندما استلقى فيه أسرع رجاله بإغلاق الصندوق والقاءة فى النيل وراحت أمواج النهر تتقاذف الصندوق حتى بلغ مصب رشيد فتقاذفته أمواج البحر حتى بلغت به شواطىء ببلوص بلبنان حيث توفى داخل الصندوق
جدت ايزيس المخلصة الوفية فى البحث عن زوجها واستخدمت علوم السحر حتى عرفت مكان الصندوق فركبت سفينة انطلقت بها الى ببلوص حبث حلمت ان الصندوق داخل شجرة ارز كان الملك قطعها وأقامها عمودا فى قصره وتحايلت ايزيس على ملك ببلوص بعدان كشفت له عن شخصيتها فسمح لها باسترداد الصندوق وعندما حل عليها المساء نامت فوق تابوت زوجها فجاءتها الرؤيا بأنها حملت من روح زوجها اوزوريس وعندما عادت الى مصر اختفت ومعها الصندوق فى جزيرة فيله خوفا عليه من ست الذى قتله من قبل
وظلت مختفية حتى انجبت حورس بينما كان ست فى هذا الوقت يواصل البحث حتى عثر على جسد أوزوريس وقطعة الى ست عشرة جزء بعثرها على جميع مقاطعات مصر وعادت ايزيس لتواصل البحث عن هذه الأشلاء حتى عثرت عليها ماعدا جزء واحد هو قدم أوزوريس اليمنى التى استقرت فى جزيرة بيجة المقابلة لجزيرة فيلة وكانت المياه تنساب من بين اصابعهها محملة بالخصب والطمى لتنمو ربوع مصر من فيض النهر ومنذ تلك اللحظة صار أوزوريس ملكا للموتى يتولى حسابهم فى الآخرة
اما حورس الابن فقد غزت فيه امه روح الانتقام فخاض صراعا مع عمه حتى انتصر عليه واعتلى عرش أبية وتوج بالتاج الأبيض فى مقر حكمه بالمدينة الصغيرة على جزيرة فيلة المقدسة
تلك هى معابد فيلة التى نقلت بمعاونة اليونسكو بعد بناء السد العالى الى جزيرة ايجليكا الاكثر ارتفاعا بعد ان تعاقب عليها الغرق والظهور فقد فقدت المدينة مبانيها المبنية بالطوب اللبن عقب بناء خزان اسوان
كان اول من بنى معبد لازيس هو الملك طهارقة احد ملوك النوبة السفلى ثم بنى بعده الملك نكتانبو لها معبدا ثم ياتى بعد ذلك الرومان فبنوا المعابد تمجبدا لازيس
وخلال العصر الاسلامى وخلال أيام الدولة العباسية ظهرت قصة انس الوجود المستوحاه من قصص الف ليلة تقول الحكاية
كان لاحد الوزراء ابنة تدعى زهرة الورد غاية فى الجمال والحسن احبها احد حراس القصر واسمه انس الوجود أحبت فيه الفتاه الأخلاق النبيلة التى لم تجدها فى أبناء الملوك والأمراء ووجد أبوها ان العلاقة غير متكافئة فطرد انس الوجود من ارض فيلة وحبس ابنته فى القصر وأحاط الجزيرة بمجموعة من التماسيح حتى لايقترب منها انس الوجود
واخذ انس الوجود يجوب البلاد بحثا عن حبيبته زهرة الورد وراحت البلابل تتغنى له والطيور تتراص فوقة لتكون مظلة تحمبه من الشمس واستأنست له الوحوش حتى وصل الى الجزء الشرقى من شلال جزيرة فيلة وظل الفتى يواصل الغناء ويحكى حكايته حتى آنست له التماسيح وحمله تمساح كبير على ظهره واتى به الى شاطىء الجزيرة وكان لابد ان يرضخ الوزير فى النهاية ويزوج الفتى انس الوجود من ابنته زهرة الورد اذا وجد فيه إنسان يتسم بالأخلاق العالية والنبل والشهامة وهكذا سمى المعبد بقصر انس الوجود
ولقصر انس الوجود مع امير الشعراء احمد شوقى حكاية رواها شاعرنا الكبير فاروق شوشة بجريدة الاهرام يقول:
في الرابع والعشرين من مارس عام‏1910‏ زار الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت مصر ـ وهو جد الرئيس روزفلت الذي كان رئيسا لأمريكا في أثناء الحرب العالمية الثانية 0
وخطب في الجامعة المصرية بدعوة من رئيسها الأمير أحمد فؤاد‏,‏ فأساء إلي مصر في حديثه‏,‏ وهاجم الإسلام‏.‏ وكان قد خطب قبل ذلك في السودان‏,‏ فأثني علي الحكم الانجليزي في مصر‏,‏ مخالفا بذلك تقاليد الحرية التي نادت بها أمريكا بعد تحررها من الاستعمار‏.‏ فرد عليه الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بمقال تاريخي‏,‏ ثم انتهز أحمد شوقي فرصة زيارة روزفلت لمعابد أنس الوجود التي أطلق عليها معابد فيلة‏,‏ فأراد أن يعطيه درسا في احترام مصر والكشف عن عظمة تاريخها وآثارها‏,‏ وخاطبه بقصيدة مدوية ـ وهو الشاب صغير السن الذي يعمل موظفا في قصر الخديو ـ رئيسا لقلم الترجمة ـ ولابد له أن يراعي آداب الوظيفة وألا يشتط في مهاجمة ضيف الخديو وألا يسمعه ما لا يليق‏,‏ مخالفا نهج الحكومة التي لم ترفع صوتها بالاحتجاج علي ما قاله روزفلت‏.‏ وهي قصيدة كانت بالنسبة لي الوقفة الثانية مع شوقي واهتمامه بالآثار المصرية من ناحية‏,‏ واندفاعه في الإبانة عن وطنيته واعتزازه بهذه الآثار باعتبارها تجسيدا لهذه الوطنية‏,‏ وهو يقول‏:‏
أيها المنتحي بأسوان دارا‏:‏ كالثريا‏,‏ تريد أن تنقضاـ اخلع النعل‏,‏ واخفض الطرف‏,‏ واخشع‏:‏ لا تحاول من آية الدهر غضا ـ قف بتلك القصور في اليم غرقي‏:‏ ممسكا بعضها من الذعر بعضاـ كعذاري أخفين في الماء بضا‏:‏ سابحات به‏,‏ وأبدين بضا ـ مشرفات علي الزوال وكانت‏:‏ مشرفات علي الكواكب نهضا ـ شاب من حولها الزمان وشابت‏:‏ وشباب الفنون مازال غضا ـ رب نقش كأنما نفض الصانع منه اليدين بالأمس نفضاـ ودهان كلامع الزيت‏,‏ مرت‏:‏ أعصر بالسراج والزيت وضا ـ وخطوط كأنها هدب ريم‏:‏ حسنت صنعة وطولا وعرضا ـ وضحايا تكاد تمشي وترعي‏:‏ لو أصابت من قدرة الله نبضا ـ ومحاريب كالبروج بنتها‏:‏ عزمات من عزمة الجن أمضي ـ شيدت بعضها الفراعين زلفي‏:‏ وبني البعض أجنب يترضي‏.‏
وأنا استأذن في توجيه الاهتمام إلي جانبين مهمين في هذه القصيدة‏,‏ أولهما‏:‏ امتلاء أبياتها الأولي بأفعال الأمر التي يخاطب بها ضيف البلاد العظيم الشأن‏,‏ عندما يقول له‏:‏ أخلع نعلك حتي لا تطأ هذا المكان المقدس عند المصريين‏,‏ واخفض طرفك وأنت تنظر إليه وتتأمله‏,‏ واخشع في نظرتك تقديرا لعظمته وخلوده‏,‏ وقف وشاهد هذه المعابد التي هي في حقيقتها قصور توشك أن تغرق في اليم‏,‏ واليم هو الاسم الذي أطلقه المصريون علي النيل فهو ليس نهرا عاديا‏,‏ ولكنه يم أي بحر شاسع‏,‏ وهي التسمية التي جاء بها القرآن الكريم في خطابه إلي أم موسي وهو طفل رضيع أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه أذي الفرعون حتي ينجو‏.‏
الجانب الثاني هو براعة شوقي التي لا تجاري في تصوير هذه المعابد والآثار وما امتلأت به من فنون بديعة‏:‏ نقشا ودهانا وخطا ورسما ونحتا وبناء وتصويرا‏,‏ وهي لوحة من لوحات شوقي المصور البارع الذي تجلت عبقرية ريشته الشعرية المماثلة لهدب الريم أي رمش الغزال الذي صوره في قصيدته‏.‏
وتمضي القصائد الجميلة بأبياتها المحكمة‏,‏ وكلما تقدمنا فيها خطوة‏,‏ هزتنا كلمات شوقي‏,‏ أمير شعراء العصر الحديث‏,‏ وهو يقول‏:‏
صنعة تدهش العقول وفن‏..‏ كان إتقانه علي القوم فرضا وشوقي يستعمل كلمة الفرض بالمعني الديني‏,‏ مثلما نقول الصلاة فرض والحج فرض والزكاة فرض‏,‏ فالذي أدهش العالم كله‏,‏ والعقول جميعا من إبداع المصريين في تشييد ما شيدوه كان نتيجة لأن تفانيهم في إنجازه كان بمثابة الفرض الديني الذي تنهض به الأرواح قبل الأجسام‏,‏ وتنجزه العزمات قبل الأيادي‏.‏
ثم يقول شوقي‏,‏ علي عادته في تلخيص المشهد الشعري الذي صوره‏,‏ فأبدع تصويره‏,‏ واستخلاص الحكمة الحية والعظة المستلهمة منه‏:‏ يا قصورا نظرتها وهي تقضي‏:‏ فسكبت الدموع والحق يقضي‏/‏ أنت سطر‏,‏ ومجد مصر كتاب‏:‏ كيف سام البلي كتابك فضا‏.‏
ولابد أن دموع شوقي علي هذه الآثار المصرية العظيمة الغارقة في مياه النيل‏,‏ والتي أوشكت علي السقوط والزوال‏,‏ فبعضها يتماسك ممسكا بالبعض الآخر‏,‏ هذه الدموع وهذا الاعزاز الكبير بمجد مصر ـ في صفحة ناصعة من صفحاته ـ كان وراء الصيحة العالمية التي قامت بها مصر في عهد عظيم وزراء ثقافتها الدكتور ثروت عكاشة وبمساعدة اليونسكو‏,‏ لانقاذ هذه الآثار‏,‏ ورفعها من الماء‏,‏ وإعادة تشييدها من جديد علي الهضبة بمنحي من مياه النهر‏,‏ ولسان شوقي ينطلق بيته الجميل الذي يجب أن يترنم به كل شاعر مصري ينبض قلبه بمحبة هذا الوطن‏:‏
وأنا المحتفي بتاريخ مصر‏:‏ من يصن مجد قومه صان عرضا‏.‏

عبدالمنعــــم عبدالعظــــيم
الاقصـــــر .. مصــــر
Monemazim2007@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: