الاثنين، 24 نوفمبر 2008

هذه الرحلة المقدسة وامراة من مصر

لبيك لا شريك لك
امرأة من مصر في رحلة مقدسة
كوامن الغيرة تتفجر في قلب الزوجة، فتقسم ألا يؤويها وتلك المصرية سقف في أرض كنعان.
كتب ـ عبدالمنعم عبدالعظيم
في هذه الأيام المباركة حيث تهفوا القلوب إلى أم القرى أطهر ملتقى وأقدس وأشرف بقاع الدنيا، حيث يعانق ضيوف الرحمن هذا الثرى الطيب وبين التلبية والطواف والوقوف تواضعا لعظمة الحي الذي لا يموت وإذعانا للقوي الجبار صاحب الملك والملكوت سعيا إلى مغفرة الرحمن الرحيم في متجر عبادته وعند موعد مغفرته، كما يقول الإمام على كرم الله وجهه، تشدنا على البعد أصداء ذكريات سامية كثيرة ارتبطت بهذا المكان الطيب الطاهر وظل عبق أريجها وعبير شذاها يطل من عليائه ويغمر الأرض بالحب والأمل والرحمة والنور ويجمعها بالإيمان والتقوى ويغذيها بالذكر الحسن.
في هذه البقعة الطيبة الطاهرة المطهرة الآمنة الوادعة المطمئنة الذاكرة التي تملأ القلوب أمنا وطمأنينة وتقوى فيها وشائج الإيمان وتجمع شتاتها على هدي الخالق البارىء المنان، وكأني انظر وسط الألوف المؤلفة الذين ارتفعت نجوى قلوبهم إلى عنان السماء عازفة عن كل دنايا النفوس متفوقة على ضعفها تاركة زخارف الدنيا خلف ظهرها لتعيش الفطرة على سجيتها محلقة في ملكوت القدوس السلام العدل مالك الملك سبحانه هاتفة بكل الجوارح ومن عمق أعماق القلوب {لبيك الهم لبيك لبيك لاشريك لك إن الحمد والنعمة لك والملك.}، تشدنى ذاكرة التاريخ بعيدا.
أنظر في هذا المكان الرحب الذي لا تجد فيه موضعا لقدم، إلى زمن كان فيه هذا الوادي قاحلا قفرا أجدب، وامرأة من مصر ارتوت من سلسبيل نيلها الرقراق فلم تعاني ولم تقاسي فى أرضها الخضراء المعطاء عنت الحياة وشقاوة العيش، أتت من أرض رحبة رغده فأكسبتها مصريتها، نضرة وصفاء، ومنحتها روح الحب والأمل والعطاء بالرغم من كونها أمة، وقد أكد عديد من المفسرين أنها كانت من بنات الملوك وكانت أسيرة حرب فى بلاط فرعون، أهداها لسارة فأهدتها سارة إلى زوجها إبراهيم الخليل عليه السلام علها لتسري عنه إحساسه بالحرمان من الولد وقد كانت له سكنا ففجرت رجولته وأينعت خصوبته، فأثمرت ابنها إسماعيل عليه السلام، فعاد للرجل بشره وهناؤه، وهدأت نفسه بعد طول انتظار للخليفة.
ولكن هذا فجر أيضا كل كوامن الغيرة في زوجته، ولها عذرها كأنثى حرمت من العطاء وبلغت عمرا تفقد فيه المرأة الرجاء، فأقسمت ألا يؤويها وتلك المصرية سقف في أرض كنعان.
وغالبت الشيخ فغلبته، فسار بزوجته ووليدها في الفيافي والقفار حتى ذلك المكان بوادٍ غير ذي زرع عند تلك الربوة الحمراء حيث أطلال البيت العتيق.
هناك ترك امرأته ووليدها لا تملك غير سقاء ماء وجراب تمر، وهرول الرجل راجعا تغلبه دموعه، فلم يملك غير التوسل إلى رب العزة الرزاق الكريم داعيا {ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون. ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شىء في الأرض ولا السماء.}
واستأنف المسير عائدا يدوس لواعج قلبه إرضاء لغرور زوجته العبرانية، وفي قلبه اطمئنان أن الله لن يضيع أسرته المسكينة في هذا التيه.
نعود إلى تلك البرية المقفرة القاحلة في الوادي الأجرد بين الصخور الكالحة والجبال الغبراء وامرأة من مصر وطفل يتلوي من الجوع والعطش بعد أن نفد الزاد القليل.
امرأة لا تملك غير الجزع والدموع، يعلو صراخ الصغير فيكسب صداه الملتاع المكان رعبا ووحشة، ماذا تصنع امرأة وحيده في هذا الهول؟
تجري إلى جبل الصفا تتنسمه علها تجد على البعد ما يبدد وحشتها ويقرب الأمل فلم يجاوبها غير الصمت والفراغ.
تهرول إلى جبل المروة تسعى سعى المكدود اليائس، ولم تلبث تحاول مرة أخرى تسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط حتى أخذ منها التعب واليأس مأخذا فجلست تحتضن صغيرها تنتظر الفاجعة مع لهاث أنفاسة الظامئة الجائعة يتمزق القلب ويتهرىء الكبد.
وما لبثت أن بدأت الحياة تخفت أناتها، وهي تتهاوى على الرمال مستسلمة لقدرها تودع الحياة رويدا رويدا ولم يبق لها ولصغيرها غير عدة أنفاس، وفجأة يحوم طائر حول المكان ويحط على بقعة هناك تنظر إليه بعين قارب بريقها أن ينطفىء ويختفي منها الضياء، ربما كان حلما، وينقر الطائر الأرض بمنقاره فيتفجر ماء زمزم فتهرع السيدة هاجر بقوة الأمل تسرى في كيانها الحياة تروي الوليد وترتوي ويرتوي أيضا الوادي الأجرد وتدب فيه الحياة وتتحقق دعوة الشيخ فتهوي أفئدة من الناس إليهم من كل صوب وحدب.
وتشاء إرادة الحي الذي لا يموت لهذا الطفل إسماعيل عليه السلام أن يحمل حفيدة محمد بن عبدالله عليه السلام خاتم الرسالات السماوية ومصباح الهدى وتتبدد ظلمات الجاهلية ويسطع نور الهداية.
ويحمل إسماعيل عليه السلام مع أبيه سيدنا إبراهيم عليه السلام رسالة السماء والحكمة الإلهية التي شاء الله سبحانه وتعالى لها أن تتحقق من هذه الرحلة المقدسة إلى هذا المكان.
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال ومن كفر فامتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.} صدق الله العظيم.
حقا {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.}
هذه أمكم هاجر يا أهل مصر هجرت العمران إلى الخراب، فاستطاعت أن تخلق بإذن الله في هذا المكان ما جعله قبلة الحجيج ومحل العابدين ومحط المستغفرين ومتابة الخاطئين وطريق السالكين ومنسك المسلمين وبيت الله الحرام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في يوم الدين.
عبدالمنعم عبدالعظيم محمد
الأقصر (مصر)


Monemazim2007@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: